Baal-Hashulam 11

الحرية

الحرية كلمة بحاجة إلى توضيح، حرية من ماذا ؟ حرية من ملاك الموت، ولكن كيف أن تلقي الحكمة له علاقة بتحرير الشخص من ملاك الموت؟ علاوة على ذلك هل من الممكن أنه عندما يحرز الإنسان تصحيح وبناء نفسه والتي تصبح له بمثابة جسده الروحي والذي لا يذوق الموت بعد ذلك من خلال تلقي الحكمة فكيف له أن يخسره مرة ثانية؟ فهل من الممكن أن يُفقد الأبدي ويتلاشى ليصبح لا وجود له؟

حرية الإرادة 

لنستطيع إدراك المفهوم الصحيح والدقيق  لعبارة  “حرية من ملاك الموت” يجب علينا في البداية أن نعي معنى مفهوم أو مبدأ الحرية كما تعيه البشرية بشكل طبيعي.

من وجهة نظر عامة تعتبر الحرية قانون طبيعي يتم تطبيقه على كل جوانب الحياة. لذلك نجد ان الحيوانات البرية والتي تقع في الأسر تموت عندما نسلبها من حريتها. وهذا يُشير دالاً على أن العناية الإلهية لا ترضى بالعبودية ولا بإستعباد أي مخلوق على الأرض. وأنه بسبب هذا نرى الإنسانية تصارع محاولة شق طريقها بجهد للحصول على الحرية على مدى القرون العدة الماضية وليحصل الفرد ولو على قدر معين من الحرية في حياته.

في النهاية يبقى هذا المفهوم الذي نشير إليه بكلمة “حرية” غامضاً ومعناه غير واضح، حتى إذا حاولنا التعمق في محاولة تحليل مفهوم الحرية فلن نخرج بأي نتيجة. فإنه قبل السعي وراء مفهوم حرية الفرد يجب الأخذ بالإعتبار أن هذا الفرد يملك هذه السمة التي تدعى ” الحرية” في داخله، أي أن هذا الفرد يستطيع السلوك بالتوافق مع حرية الإختيار لديه.

الملذة والألم

مع ذلك، فإذا تفحصنا تصرف أو سلوك الفرد لكنا نجدها تصرفات قسرية كما لو أنه مجبر في سلوكه وتصرفاته ولا يملك أي حرية إختيار. فنرى الفرد يسلك في طريق الحياة الذي لم يختاره ولكن يعيشه مرغماً وهذا أمر لا بد منه إذ أن العناية الإلهية صنعت الحياة بين سلسلتين سلسلة اللذة وسلسلة الألم .

إن الكائن الحي لا يملك حرية الإختيار في الحياة، أي ليس له الحرية في أن يختار الألم في الحياة ويرفض الملذات فيها. فما يفرق الإنسان عن الحيوان هو قدرة الإنسان في أن يضع لنفسه أهدافاً بعيدة المدى لحياته أي أنه قادر على تقييم نسبة الألم التي يتوجب أن يتلقاه في سعيه للوصول إلى الهدف الذي يرغبه والذي فيه نسبة الملذة التي يسعى وراءها تفوق بكثير نسبة الألم الذي عاناه.

ولكن في الواقع جميع الحسابات والتقيمات التي يقوم بها الفرد وهمية، فإن جميع المصالح والملذات التي يراها الفرد لنفسه في المستقبل تبدو له على أنها مفضلة على العذاب والكرب الذي يعاني منه في الوقت الحاضر،  إذاً هي مسألة حسابية لإستنتاج وحسم مقدار الألم والعذاب من الملذة المتوقعة ، وفي النتيجة ما تبقى هو بعض الفائض الذي يسعى وراءه الفرد.

ولهذا السبب يبدو أن الملذة هي الشيء الوحيد الطويل المدى وبالتالي يعاني الفرد من عدم إيجاد الملذة التي كان يسعى وراءها  ما كان يأمله مقارنة بالعذاب والألم الذي عاناه وهكذا موقفنا هذا يشبه التاجر الذي يوجد عجز في ميزانيته.

في نهاية الأمر لا يوجد أي فارق بين الإنسان والحيوان  وبالنتيجة لا يوجد هناك أي حرية إختيار على الإطلاق، لا يوجد إلا قوة تسير بهم لتقودهم بإتجاه أي ملذة عابرة مبعدةً إياهم عن ألم الظروف الصعبة.  وهذ القوة أي العناية الإلهية إلى المكان التي ترغب به بواسطة هاتين القوتين من دون إعطائهم الفرصة في التعبير عن رأيهم ورغبتهم.  

علاوة على ذلك نرى بأن حتى تحديد نوعية الملذة والفائدة التي يبغي الفرد الحصول عليها ليست في حوزته أي في حرية الإرادة لديه بل وفقاً لما يريده الآخرين من حوله. فعلى سبيل المثال نحن نرى أن الشخص يجلس ويتكلم ويأكل ويرتدي ملابسه ليس بحسب إختياره هو بل كما يفرض عليه مجتمعه الذي يعيش فيه. فكل سلوك يقوم به الفرد في مجتمعه غير نابع من إرادته أو خياره ولكنه فرض عليه من أبناء مجتمعه تبعاً لأفكار وأذواق المجتمع الذي ينتمي إليه وليس نابعاً من حرية الإرادة لديه. ففي الغالبية كل منا يسلك في هذا الطريق ضد إرادته لأنه من السهل على الفرد أن يسلك في مسار مجتمعه من دون عبء صراعه معه فأنا رهين المجتمع كما الأسير المكبل بسلاسل من حديد وخاضع في جميع تصرفاتي لعادات وأعراف المجتمع الذي أنتمي إليه.

إذا أخبرني الآن أين هي حرية الإختيار لدى الإنسان؟ فلو أننا نفترض أن الإنسان لا يملك الحرية في إرادته إذاً فإننا جميعاً نعمل كأجهزة مبرمجة تدار بواسطة قوة خارجية تسيطر علينا مسيرةً إيانا في طريق الحياة هذا وكأننا جميعنا سجناء العناية الإلهية والتي تستخدم سلسلتي اللذة والألم إما لتجذبنا إليها أو لتدفع بنا بعيداً حسب إرادتها وحسب ما تراه مناسباً لكل منا.       

فمن الواضح الآن أنه لا يوجد شيء في العالم بأكمله مثل الأنا أو الأنانية في الشخص بما أنه لا يوجد أي شخص حر. فأنا كشخص لست مسؤولاً عن عمل يدي ولست أنا الفنان على مسرح الحياة  أؤدي الدور الذي أرغب به وهكذا مبدأ المكافأة والعقاب غير قائم بل ملغى.   

هذا الأمر غريب  ليس فقط على الشخص الغير متدين والذي يؤمن بالعناية الإلهية ويتكل على الخالق واثقاً به في أي يهديه إلى الطريق الصحيح، والأمر أيضاً غريب على هؤلاء الذين ليس لهم إيمان قوي بالخالق وبعنايته الإلهية، فبحسب ما ورد مسبقاً أننا جميعنا لا ندرك بأننا مكبلين بقيود قوانين الطبيعة التي نعيش فيها، نسلك فيها في عدم المعرفة غير مسؤولين عن الأحداث التي تصنع حياتنا ونحن أبناء البشر أصحاب المنطق والمعرفة أصبحنا دُمية في يد الطبيعة العمياء ترمي بنا في كل إتجاه ولا أحد منا يعي دربه وإلى أين ينتهي به المسار.

 قانون العلة أو السبب “السببية”.

 من الجدير بل من الأفضل أن نأخذ بعض الوقت في التمعن بهذا الأمر ونحاول تفهمه أي فهم موضوع وجودنا في هذا العالم ، موضوع الذات في الشخص إذ أن كل منا يعتبر نفسه وكأنه كيان مستقل بنفسه ويتصرف من تلقاء ذاته منفصل عن أي من القوات الخارجية التي لا يعي بوجودها.  فهل في الواقع نعرف ما هي ” الذات ” في الإنسان؟

 نحن نعي بأنه يوجد ترابط بين جميع عناصر الواقع الذي نعيش فيه وجميعها مرتبطة معاً بقانون السببية أي قانون الحدث والعاقبة وهكذا كل شيء يسير معاً وينمو ويتطور. ولكن في كليّة الواقع الكاملة يبدو وكأن كل عنصر في الطبيعة قائم في أي درجة من مستوى الوجود، إذا كان على مستوى الجماد- النباتي- الحي- والمتكلم يعمل من تلقاء نفسه، ولكن في حقيقة الواقع أن كل عنصر وعلى أي مستوى من الوجود مرتبط بإلتزام بقانون السببية ويعمل بأسلوب قانون الحدث والعاقبة.

 علاوة على ذلك ان كل شكل أو نوع من أنواع السلوك الذي يقوم به أي مخلوق في هذا العالم دُفع إليها لأسباب معينة لتجبره على قبول التغيير الذي يأخذ مجراه في حياته. هذا الأمر واضح وخاصة لهؤلائك الذين يتفحصون قوانين الطبيعة من ناحية علمية يظهر الأمر واضحاً من دون محاباة. بالتأكيد يجب علينا تحليل المسألة وفهمها ونجيز لأنفسنا الفرصة لتفحص الموضوع من كامل جوانبه.

العوامل الأربعة   

 يجب أن نفتكر دائماً أخذين بعين الإعتبار بأن كل إمتداد في الفراغ أي مع بداية نشؤ كل عالم يجب أن نعتبره على أنه وجود من وجود وليس وجود من العدم ، بل وجود من كيان موجود والذي دخل حيز الشكل للموجود أخذاً الشكل الجديد الذي عليه الآن والذي نشأ من ما كان موجود قبله.

لذلك يجب علينا أن ندرك بأنه يوجد هناك أربعة عوامل أساسية في ظهور كل عالم وهي:

١- المصدر

٢- التأثير المباشر لقانون الحدث والعاقبة في علاقته بميزات المصدر.

٣- التأثير الداخلي والمباشر لقانون الحدث والعاقبة والذي يتغير حسب تأثير القوات الخارجية عليه.

٤- تأثير العوامل الخارجية على قانون الحدث والعاقبة .

 سألقي الضوء على كل عامل على حدى لهدف التوضيح.

 

 السبب الأول: المصدر – المادة الأولى.

المصدر هو المادة الأولية والمتعلقة بأساس الخليقة. لقد قيل ” لا يوجد أي جديد تحت الشمس” وكل ما يأخذ مجراه في العالم لا يُعتبر وجود من العدم بل وجود من وجود. أي أن ما ينبثق في هذا العالم إلى الوجود هو كيان كائن خضع لعملية تحويل بخلع شكله السابق آخذاً عليه شكلاً جديداً ومختلفاً عن ما كان قبله. جوهر هذا الكيان والذي تغيير شكله الأوليّ ما ننسب إليه ” بالمصدر”. في المصدر تكمن القوة والتي مصيرها أن تظهر لتحدد الشكل النهائي لما ينبثق للوجود. لذلك نعتبر هذه المادة في العنصر الأساسي بشكل واضح.

السبب الثاني: التأثير المباشر لقانون الحدث والعاقبة في علاقته بميزات المصدر.

هذا سلوك أو مسار قانون السببية في علاقته مع ميزات المصدر بحد ذاته وفريد وغير قابل للتغيير. لنأخذ على سبيل المثال سنبلة من القمح، تمر حبة القمح في عدد من المراحل في عملية الإنتاش إذ تحتاج البذرة إلى الماء كي تترطب الخلايا الموجودة في داخلها لتصبح قادرة على النشاط الأيضي لتنمو وتصبح سنبلة من القمح. المرحلة الأولى من عملية الإنتاش عندما يتمزق غلاف البذرة وتنقسم على نفسها تعتبر مرحلة ” المصدر”،  فإن جوهر حبة القمح والذي يحتوي على ميزات جنينية جديدة انسلخ عن الشكل الخارجي وأصبح جوهر من دون شكل . فبعدما ماتت حبة القمح في التربة أصبحت مؤهلة لتأخذ عليها شكلاً جديداً لغلة القمح القادمة إذ أصبحت هي المصدر.

 نحن نعلم بأن حبة القمح هذه ستنبت لتأتي بحبوب من نفس الشكل بالرغم من انسلاخها عنه في مرحلة الإنتاش. ومع أن التغيير الذي أخذ مكانه من ناحية النوعية والكمية وأيضاً في المذاق والمظهر لكن جوهر الشكل بقي على ما هو من دون أي تغيير.

 لذلك يوجد هنا خاصية لقانون الحدث والعاقبة تعود في أصلها إلى ميزات المصدر بالذات والتي لا تتغير أبداً. لذلك نجد أن الشوفان لا ينشأ من حبة القمح كما شرحت سابقاً وهذا ما يدعى ” السبب الثاني”.    

السبب الثالث: التأثير الداخلي أو الباطني لقانون الحدث والعاقبة والذي يتغير حسب تأثير القوات الخارجية عليه.

هذا السلوك أو المسار الباطني للحدث والعاقبة في المصدر والذي يتغيير حسب مواجهته مع القوات الخارجية التي في البيئة وتأثيرها عليه كما تبين لنا من مثال حبة القمح والتي بموتها في التربة إنبثق منها سنبلة تحمل فيها الكثير من حُبيبات القمح من نوعية أفضل من حبة القمح التي اُستخدمت في البذار .

 لذلك نجد أنه من المنطقي تواجد عوامل أخرى إضافية هنا ذات دور كبير في الترابط والتعاون مع القوى المستترة في الطبيعة أو في البيئة المحيطة أي في ” المصدر”. وهذا هو سبب العناصر الإضافية التي ظهرت من نوعية وكمية القمح الجديد والتي كانت غير متواجدة في البذار. هذه العوامل البيولوجية والمركبات الكيميائية الجديدة من معادن وأملاح معدنية في التربة وأيضاً الأمطار وأشعة الشمس جميع هذه العوامل تؤثر من خلال تحكم القوات التي فيها والتي إنضمت إلى القوات المتواجدة في المصدر نفسه، وبحسب تأثير قانون الحدث والعاقبة على حبة القمح في التربة أنتجت النوعية والكمية الجديدة التي ظهرت في المحصول.

 يجب علينا أن ندرك أن هذا العامل أو السبب الثالث انضم إلى العناصر الداخلية للمصدر بما ان القوة المتوارية في المصدر هي التي تتحكم بالجميع. في النهاية جميع التغييرات التي ظهرت للعيان تنتمي لمحصول القمح  وليس للآخر، وبالتالي أشرنا إلى هذه العناصر بالعوامل الداخلية. ولكن ومع ذلك نحن نرى أن العوامل في المرحلة الثانية مختلفة عن الأخيرة والتي في طبيعتها لا تتغيير أبداً بينما نجد أن العوامل التي وردة في المرحلة الثالثة تغيرت في كلا النوعية والكمية معاً.

 السبب الرابع: تأثير الأشياء الخارجية على قانون الحدث والعاقبة والتي تؤثر عليه من الخارج.

هذا السلوك يتضمن التأثيرات الخارجية من دون علاقة مباشرة على العنصر الذي تؤثر عليه. ففي مثال بذار القمح، إن التأثيرات الخارجية مثال المعادن والأملاح في التربة والأمطار وأشعة الشمس كلها عوامل خارجية ولا علاقة لها بحبة القمح.

 إذا نظرنا إلى جميع الأسباب أو سلوك قانون الحدث والعاقبة في كل مرحلة نرى تأثيرها على بذار القمح وأيضاً نرى تأثير كل مرحلة على المراحل الأخرى وكيف أن كل التغييرات في كل منها تتحكم في مسار التغييرات التي تأخذ مجراها في المرحلة التالية وبكليتها كيف تؤثر على نوعية وكمية المحصول. لقد استخدمنا مثال حبة القمح لنوضح صورة ظهور العالم . فهذه الأسباب أو الشروط أو العوامل تنطبق في مراحلها في كيفية انبثاق العالم

 العوامل الوراثية 

إن العامل الأساسي وراء السبب الأول هو المصدر نفسه والذي يشكل المادة الأساسية والأولية له. إن حدث خلق الإنسان يُعتبر وجود من وجود، أي أنه وجد من فكر الخالق. لذلك وإلى حد ما نستطيع القول في أنه نسخة من الأصل. وهذا يعني أن كل الدرجات التي نحرزها نحن في العالم الروحي هي صورة من الأصل الذي وجد من الأصل والذي أحرزه جميع علماء الكابالا من قبلنا.

 الفارق الوحيد هنا هو أنه قد أُزيل منهم الشكل الخارجي كما الحال في بذرة القمح والتي انسلخ غلافها عنها لتكون قادرة على النشاط الأيضي لتنمو في شكلها الجديد وتصبح سنبلة. هكذا هو الحال أيضاً في الحيوان المنوي والذي منه يولد الإنسان، ففي حد ذاته لا يوجد في تركيبته أي معالم خاصة بل يحتوي فقط على عوامل وراثية والتي ليست إلا قوة مجردة.

هذ المفاهيم والتي كانت عبارة عن قوة مجردة في معالمها الوراثية من الأسلاف تحولت إلى ميول ونزعات في الشخص والتي تصبح له “عادات” و “غرائز ” اي مقدراته الطبيعية وانواع السلوك والتصرفات التي في كثير من الأحيان لا يعلم لماذا يقوم بها. فكل هذه هي قوات خفية والتي ورثها من أسلافه فكما أننا نرث المال والممتلكات المادية من آبائنا وأجدادنا هكذا أيضاً الممتلكات الروحية تأتي لنا منهم ولكن الفارق هنا أن جميع الإحرازات الروحية والتي أدركها آبائنا في جميع أعمالهم السابقة تأتي لنا كميراث عبر الأجيال من جيل إلى جيل.

 تظهر العوامل الوراثية بنزعاتها المتعددة في كل إنسان بشكل واضع للعيان من خلال ميوله في حب السيطرة مثلاً، فهل هو إنسان متغطرس أو خجول، هل هو مكتفٍ بحياة مادية أو يرغب  في الوصول إلى الكمال الروحي والأخلاقي،  هل هو مرنٌ في الحياة أم أنه يميل إلى العزلة.

 فكل هذه الميزات المتعددة إذا كانت إيجابية أو سلبية التي نراها في الناس ليست ميزاتهم التي قاموا بتحصيلها بأنفسهم بل هي الميزات التي ورثوها من أجدادهم وأسلافهم. ففي دماغ الإنسان يوجد جزء ينسب إليه بمركز اللاشعور أو اللاوعي  أو ما يدعى بالعقل الباطن والذي فيه تتمركز جميع الميزات والصفات الوراثية

ولكن بسبب أن ثمرة أعمال أسلافنا والتي ورثناها عنهم من خلال تجاربهم وإحرازاتهم  أصبحت ظاهرةً فينا كميزات غريزية. لذلك وكما رأينا في مثال حبة القمح والتي نزعت غلافها الخارجي منقسمة على نفسها تاركتاً شكلها المألوف وكل ما تبقى منها هو الإمكانيات الكامنة فيها والتي أهلتها لتأخذ شكلاً جديداً،  هكذا نحن فإن الميزات قينا تُكسي أشكال المفاهيم أو الفكر الجديد.  وهذا الفكر  هو ما يُعتبر المادة الأساسية والعامل الأولي والذي يدعى ” المصدر”.  ففي المصدر تمكن جميع جوهر وخلاصة الميزات الفريدة والتي ورثها الشخص من أسلافه والذي يُعرف ” تراث الأباء”.   

يجب أن نضع في إعتبارنا أن بعض هذه الميزات الموروثة تأتي إلينا مكتسيتاً بشكل سلبي أي ان هذه الميزات التي ورثناها تظهر فينا بالشكل المعاكس للذي وجدت فيه في أسلافنا. ولذلك قيل:” كل ما هو سر مستتر في قلوب الأباء يظهر علناً في الأبناء.”   

والسبب في ذلك كي يستطيع المصدر أن يخلع عنه شكله القديم ويكن قادراً أن يأخذ عليه شكلاً جديداً. فكما في مثال حبة القمح التي كان من المتوجب عليها أن تموت في التربة ليتمكن الشكل الجديد والذي تواجد في جوهر حبة القمح من الظهور بشكل جديد هكذا نحن أيضاً تظهر فينا العوامل الوراثية بشكل جديد. ولكن هذه المرحلة تعتمد على المراحل التي قمت بشرحها مسبقاً. 

 تأثير البيئة

السبب الثاني لقانون الحدث والعاقبة مباشر وغير قابل للتغيير لأنه متعلق بميزات المصدر بشكل مباشر. كما أشرت شارحاً المراحل التي تمر فيها بذرة القمح  منذ وضعها في التربة والتي تعتبر المصدر، وكيفية تأثير البيئة بكل عواملها من نوعية السماد التي وضعت فيه البذرة والأملاح المعدنية الموجودة فيها وأيضاً  تأثير الأمطار والهواء وأشعة الشمس ، جميعها كسلسلة من أحداث وعواقب من خلال مراحل طويلة ومتتابعة تؤثر على المصدر  في كل مرحلة من النمو إلى المرحلة النهائية مرحلة النضوج.

يستعيد المصدر شكله السابق أي الشكل الخارجي لحبوب القمح ولكن في نوعية وكمية مختلفة. بشكل عام يبقى جوهر المصدر ثابت بموصفاته من دون تغيير بما أننا لا نحصد الشوفان من بذار القمح، أما من ناحية الصفات الخاصة نجد التغيير واضح من ناحية كمية المحصول، فمن حبة واحدة خرج عدة سنابل. أما بالنسبة للنوعية أكانت جيدة أو رديئة مقارنه بنوعية القمح المزروع يعتمد على التأثيرات العوامل الأخرى .

 الشيء نفسه يأخذ مجراه بالنسبة للمخلوق. فالإنسان بما أنه مصدر وضع في بيئة معينة أي المجتمع الذي يعيش فيه والذي يؤثر عليه كما تأثير البيئة بعواملها على بذار القمح إذ أن المصدر هو عبارة عن مادة خامة. لذلك وبسبب الإحتكاك المتواصل مع محيطه نراه يتطبع بطباع الناس من حوله من خلال سلسلة من الدرجات أو المراحل المتتالية الواحدة تلو الأخرى على أساس قانون الحدث والعاقبة.

 هنا نرى أن الميول والنزعات المتواجدة في المصدر تتغير وتأخذ عليها شكل الأفكار والمفاهيم التي تنمو فيه لتصبح الصفات التي يتحلى الشخص بها. فعلى سبيل المثال لنقل أن أحد ما ورث عن أسلافه ميول أو نزعة ليكن بخيلاً، فكلما تقدم هذا الشخص في السن يبني لنفسه مفاهيم وأفكار عن صفة البخل ليصبح البخل صفة جيدة بشكل قاطع عنده. وهكذا حتى ولو أن والده كان كريماً ولكن باستطاعته أن يرث منه الميول السلبية في أن يصبح بخيلاً.

من جهة أخرى إذا ورث شخص ما الميول في أن يكون واسع الآفاق ومتفتح العقل يبني لنفسه أفكار ومفاهيم تدعم ميوله لتنمو هذه الأفكار وتأتي بنتائج توحي بأنه من الحسن أن يكون الإنسان واسع الآفاق ومتفتح العقل.  ولكن من أين يأتي الشخص بأفكار كهذه والتي تُنمي هذه النزعة وهذه الميول فيه؟ يحصل الشخص على جميع هذه الأفكار من البيئة التي يعيش فيها إذا أن محيطه ينقل له هذه المعرفة من الآراء والميول بشكل تدريجي عن طريق قانون الحدث والعاقبة، وبالتالي يعتبرها الشخص على أنها من ممتلكاته الخاصة إذ أنها نشأت من فكره هو نفسه. وكما في مثال بذرة القمح يوجد هنا جزء في المصدر ثابت وغير خاضع للتغيير وهو الجزء الذي يحتوي على بيانات أو معطيات أو الحقائق الموروثة كما كانت موجودة في أسلافه. وهذا ما نشير إليه ” بالتأثير الثابت لقانون الحدث والعاقبة في علاقته بميزات المصدر “.  

   السلوك الدائم يتحول ليصبح طبيعة ثانية عند الإنسان

 السبب الثالث هو التأثير الداخلي والمباشر لقانون الحدث والعاقبة والذي يؤثر على المصدر ويغير معالمه. بما ان الميزات المورثة لدى الإنسان أصبحت فكرة أو مفهوم بسبب تأثير البيئة التي يتواجد فيها الإنسان، تعمل جميعها معاً في مسار واحد والذي تحدده هذه المفاهيم. لنأخذ على سبيل المثال شخصاً إقتصادي أو ذو طبيعة يحبذ التوفير، هنا نرى أن ميوله نحو ميزة البخل أو الشح ترقد فيه كمفهوم ومن خلال تأثير البيئة المحيطة به يرى مفهوم التدبير أو البخل من خلال مبادئ محددة وواضحة.

 لنقل أنه من خلال هذا الإعتقاد أو المفهوم يحمي الشخص نفسه من ضرورة الإحتياج  لمعونة الآخرين لذلك إكتسب هذا الشخص مقاييس معينة لإدارة سمة التدبير لديه، وفي حال يتلاشى الخوف لديه من ضرورة احتياجه للآخرين يتخلى عن كل هذه المفاهيم. وهكذا نرى أنه قد تغير بشكل ملحوظ نحو الأفضل من الميزة التي ورثها عن أسلافه. في كثير من الأحيان ينجح الإنسان في استئصال وإزالة أي ميزة سيئة فيه بشكل كامل. يأخذ هذا مجراه من خلال إكتساب الإنسان لسلوك مختلف أو عادة جديدة والتي تصبح لدية طبيعته الثانية.

إن الفارق بين النبة وبين الإنسان في خوض هذه المراحل هو نسبة القوة ، فإن قوة الإنسان أعظم من قوة النبات، فمن ما ورد في مثال بذرة القمح قد رأينا أن التغيير الذي يأخذ مجراه في النبة يحدث فقط في جزء الميزات الخاصة في البذرة. بينما نجد أن الإنسان يمتلك القدرة على التغيير من خلال تأثير البيئة التي تحيط به عليه أي المجتمع الذي يعيش فيه إذا كان في الجزء الخاص أم العام، بمعنى أنه ليس هو قادر على الخضوع لعمل التغيير الجذري للميزات التي ورثها عن آبائه فقط بل أنه قادر على استبدالها بما هو نقيض لطبيعته.

العوامل الخارجية

السبب الرابع هو تأثير قانون الحدث والعاقبة والذي بدوره يؤثر على المصدر من خلال العناصر الخارجية والتي لا علاقة لها به بل نرى هذه العناصر منفصلة تماماً عن المصدر وتعمل عليه من الخارج. وهذا يعني أن هذه العوامل لا صلة لها بالمصدر على الإطلاق بسلوك أو بنمو الميزات في المصدر لكي تؤثر عليه بشكل مباشر ولكن تأثيرها يعمل من الخارج. عندما يتعلق الأمر بالعوامل التقليدية أو العناصر الرئيسية أو الرياح مثلاً نرى أن لها تأثيرها التام والبطيء الخاص بها إلى أن يقوم وبشكل تدريجي بتنظيم التأثيرات على المصدر عن طريق قانون الحدث والعاقبة وبالتالي يقوم بتغيير مفاهيم الإنسان إما للأحسن أو للأسوأ.            

لذلك لقد عملت على تأسيس العوامل الطبيعية الأربعة على أنها المنبع الأساسي لأي فكر ينشأ منا، فالفكر هو ثمار هذه العوامل . حتى لو جلس الإنسان وحاول أن يفكر في شيء معين اليوم بكامله لن يتمكن من تعديل أو تغير أي فكر خارج عن إيطار هذه العوامل الأربعة.  الشيء الوحيد الذي يستطيع الشخص إضافته هو في المقدار أو الكمية أي إذا ما كان الفكر بسيط أو ذو نباهة أو عقل عظيم، ولكن من ناحية الجودة فهو لا يستطيع عمل أي شيء أو إضافة أي شيء وذلك بسبب أن هذه العوامل الأربعة هي التي تحدد بشكل مقنع طبيعة ونوعية الفكر والنتيجة الصادرة عنه مع عدم الإكتراث  بآرائنا الشخصية. لذلك نحن في قبضة زمام هذه العوامل  كما الطين في يد الخزاف.  

حرية الإختيار

 بالرغم من ذلك نجد أننا عندما نتفحص هذه العوامل الأربعة نرى أننا لا نملك القوة في مواجهة حتى العامل الأول ” المصدر”  ولكن لا زلنا نملك القوة وحرية الإختيار في حماية أنفسنا من تأثير العوامل الثلاثة الأخرى التي بدورها تعمل على تغيير الجزء الخاص في المصدر وحتى في بعض الأحيان نراها تؤثر على الجزء العام من ميزاته بالإضافة إلى تأثير الطبيعة الثانية التي يتبناها الشخص من خلال العادة المتتابعة أو السلوك المتواصل في الحياة.  

        

           

 

 

 

     

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*