الفلسفة كلمة يونانية مركبة من جزأين “فيلو” ومعناها “حب” و”سوفيا” ومعناها “حكمة”، أي أن معناها في الأصل اليوناني “حب الحكمة”. ويعد الفيلسوف اليوناني فيثاغورس أول من استخدم المصطلح فلسفة وحدد معناه. وتستخدم كلمة الفلسفة في العصر الحديث للإشارة إلى السعي وراء المعرفة بخصوص مسائل جوهرية في حياة الإنسان ومنها الموت والحياة والواقع والمعاني والحقيقة. وتستخدم الكلمة ذاتها أيضا للإشارة إلى ما أنتجه كبار الفلاسفة من أعمال مشتركة.
لقد كانت الفلسفة في بادئ عهدها في أيام طاليس تبحث عن أصل الوجود وصانعه، والمادة التي أوجد منها الكون، والعناصر الأساسية التي تكون منها. وطال الجدال في هذه النقطة إلى أن أتى سقراط والذي وصف بأنه من “أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض” حيث أنه حول التفكير الفلسفي من التفكير في الكون وموجده وعناصر تكوينه إلى البحث في ذات الإنسان، وهذا أدى إلى تغيير كثير وكبير في معالم الفلسفة بتحويل نقاشاتها إلى طبيعة الإنسان وجوهره، والإيمان بالخالق، والبحث عنه، واستخدام الدليل العقلي في إثباته. واستخدم سقراط الفلسفة في إشاعة الفضيلة بين الناس والصدق والمحبة، وكان سقراط وأفلاطون معتمدين على العقل والمنطق كأساسين من أسس التفكير السليم الذي يسير وفق قواعد تحدد صحته أو بطلانه.
ولكن أرسطو هو الوحيد الذي أجاب عن السؤال الذي يتعلق بماهية الفلسفة إذ قال أن معنى الفلسفة يرتبط بماهية الإنسان التي تجعله يرغب بطبيعته في المعرفة. وأما في يومنا هذا وبعد التغييرات الهائلة التي حصلت منذ أيام أرسطو وأفلاطون وبالنظر إلى ما هو متوفر من المعارف وعلى الكم الهائل من أسئلة وقضايا مطروحة في العديد من المجالات إلى التقدم الذي حققه الفكر البشري في مختلف المجالات، لم يعد دور الفيلسوف فقط “حب الحكمة” أو طلبها والبحث عنها بواسطة العقل بالرغم من عدم المعرفة المتوفرة لبنية الكون، فإن الفيلسوف الآن بات مقيدا بالكثير من المناهج المختلفة والقوانين المنطقية وحصيلة المعلومات المكتسبة من النظريات العلمية وتطبيقاتها التكنولوجية التي لا تترك مجالا للشك في مشروعيتها. في ضوء ما ذكر نجد أنه لم يعد تعريف الفلسفة متوافقا مع الدور الذي يمكن أن يقوم به الفيلسوف المعاصر والذي يختلف كثيرا عن دور الفلاسفة من العصور السابقة.
وفي بحث الفلاسفة فيما وراء الطبيعة أشاروا أن الفلسفة هي علم يدرس الواقع والوجود من حيث طبيعتهما الأساسية ويدرس ماهية الأشياء أيضا. ومن الباحثين من يقسم علم ما وراء الطبيعة إلى ميدانين: علم الوجود، وعلم الكون. فعلم الوجود يدرس الموجودات؛ أما علم الكون فيدرس الكون الطبيعي ككل. كما أن علم الكون يقصد به ذلك الفرع من العلوم الذي يدرس نظام الكون وتاريخه ومستقبله. يتناول علم ما وراء الطبيعة الأمور التي تبحث في الواقع؟ وما الفرق بين الظاهر والواقع؟ ما المبادئ والمفاهيم العامة التي يمكن بموجبها تفسير تجاربنا وفهمها؟ هل لدينا إرادة حرة أم أن أعمالنا مسيرة بأسباب ليس لنا فيها خيار؟ لقد أوجد الفلاسفة عددا من النظريات في علم ما وراء الطبيعة وهي: المادية والمثالية والآلية والغائية.
إن المادية تؤكد أن المادة وحدها هي التي لها وجود حقيقي، وأن المشاعر والأفكار وغير ذلك من الظواهر العقلية إنما هي ناتجة عن نشاط المادة. وتقرر المثالية بأن أي شيء مادي إنما هو فكرة أو شكل من أشكال الفكرة، وبمقتضاها فإن الظواهر العقلية هي وحدها المهمة والمطابقة للحقيقة. أما الآلية فتؤكد أن كل الأحداث إنما هي ناتجة عن قوة آلية محضة، وليس عن غاية معينة، إذ لا يعقل أن نقول أن الكون في حد ذاته ذو غاية معينة من وراء وجوده. أما الغائية فهي على العكس، تقر بأن الكون وكل شيء فيه يتصف بالوجود والحدوث من أجل غاية معينة.
لقد عانى صاحب السلم من الكثير من الصعوبات في محاولته تفسير العلاقة بين علم حكمة الكابالا وبين – الفلسفة والتعاليم الأخرى، وكل أنواع الأديان والعلوم السياسية وتاريخ الإنسانية والبنية الإجتماعية وبنية الهياكل الحكومية- لأن علم حكمة الكابالا الذي قدمه هو وسيلة لبلوغ هدف التصحيح النهائي والذي يتوجب على الإنسانية إدراكه في يومنا هذا إذ أنه يشكل الوسيلة التي من خلالها يكون النمو والتغيير نحو الأحسن والأفضل في حياتنا كلها والوصول بالإنسانية إلى العالم الروحي.
إن الشخص في هذا العالم يتألف من أربع درجات أو مستويات “الجماد- النباتي- الحي- والمتكلم”. إن درجات الجماد والنباتي والحي في البيئة أو الطبيعة من حولنا ودرجات الجماد والنباتي والحي التي في الطبيعة البشرية هما نظامين يتم إدارتهما تلقائيا وبدون أي جهد من ناحيتنا، ويعملوا مؤثرين علينا بشكل مستقل من تلقاء ذاتهم أو بإكراه. أما بالنسبة لدرجة الإنسان أو المتكلم في الشخص يتوجب أن توجد في توافق مع طبيعة القوى العليا ولكن القوى العليا لا تقوم بإدارتها إذ أنها بمثابة بصيرة أو حسن تميز في داخل الشخص. وأنه من واجب الإنسان ومن حرية الإختيار لديه أن يكمل نفسه أي أن ينمي درجة المتكلم فيه ليصبح متجانسا ومتوازنا في السمات مع طبيعة القوى العليا. فإن هذا ما يجعلنا بشرا.
لقد عملت البشرية جاهدة في التفكير فيما تستطيع عمله بهذا الجزء الإنساني “درجة المتكلم” والتي هي جزء من نفس أدم فيه والقائمة فوق درجات الجماد والنباتي والحي في رغباته وكيف تستطيع التأثير على أفكار الشخص وكيف يستطيع ترتيبها وتنظيمها وكيف يتوجب عليه قبول العالم الذي يعيش فيه، وحريته التي أعطيت له، وكل ما جمعت البشرية في تاريخها.
وكخلاصة نستطيع القول بأن علم حكمة الكابالا يتعلق”بماهية الإنسان وما هو دوره في هذا العالم؟” طبعا إن هذه الأشياء كلها نابعة من أفكار الإنسان مما يراه ويشعر به ومن المعرفة التي يحصل عليها من التاريخ خلال أيام حياته. فإن درجة المفهوم والإدراك الصحيح للجزء الإنساني فينا التي يتوجب علينا اكتسابها، هي في الواقع درجة أعلى في داخلنا وإلى أن نحرز هذه الدرجة لا نستطيع فهمها. ولهذا السبب نجد أن الفلسفة تتعامل مع الأشياء المجردة والمجهولة. ومع محاولة البشرية على فهم وإدراك ما تحاول الفلسفة تقديمه للناس، ظهر على أنه أمر لم يتمكن البشر من إحرازه لعدم قدرتهم على الإحساس بها بما أنها أشياء مجردة، إذ أن نظام الأنا فينا لا يستطيع إدراك ومعرفة ما لا يستطيع جسه أو الإحساس به. إذا ما الذي نستطيع عمله؟
فإذا قرأنا الدراسات والبحوث الفلسفية التي أجراها الفلاسفة القدماء منذ نشؤ الفلسفة إلى عصرنا هذا نرى بأنه في كل جيل حاولوا كل جهودهم في أن يوفروا جوابا عن أمور حياة الإنسان وعن الوجود والحياة بشكل عام. فإننا نلاحظ كم كان الفلاسفة القدماء ساذجين وذو تفكير فطري فعلى سبيل المثال كانوا يعتقدون بأن نفس الإنسان هي عبارة عن النفس. ولكن مع مرور الزمن نرى بأنهم قد أحرزوا بعد التقدم وبدأوا يأخذون من علم الكابالا ولكن نحن ندرك أنه من دون اكتساب والحصول على الهدف النهائي والذي تستطيع البشرية بلوغه عن طريق إدراك درجة المتكلم في الشخص، ومن دون الوصول إلى هذه المعرفة فلا جدوى من الكلام في هذه الحالة إذ أنه فارغ ومجرد من أي معنى.
وبما أن كل نتائج الفلسفة كانت تعتمد على الخيال وليس على البحوث والتجارب العلمية أي ناتجة عن إدراك حسي إذ أنهم كانوا يتعاملون في مسائل مجردة، أي أنهم كانوا يتعاملون بأشكال من دون المادة “المسألة” فيها، ولذلك كانت النتائج غير صحيحة وعندما حاولت البشرية فهمها وقعت في الكثير من الكرب والعذاب. ولذلك يتوجب علينا أن ندرك الفلسفة على أنها ثمرة العقل والخيال وهي محدودة جدا وخاصة في أمور ما وراء عالمنا المادي. لذلك توصلت الفلسفة إلى ما هو عليه في يومنا هذا إذ أنها أصبحت في العقود العدة الماضية مجرد أمر سطحي ولا يأخذه الناس بجدية، بل تحولت إلى كل ما يستطيع المرء فلسفته من الخيال والنزوات الخيالية عن الحياة، لذلك نراها الآن مركونة جانبا بما أن البشرية قررت بالتعامل مع الحياة بناء على مبدأ ” القاضي لا يملك إلا ما تراه عيناه” إذا كان بمبتغاها التقدم في الحياة. لذلك فإن جميع العلوم متضمنة علم النفس المادي وكل شيء مما نرى نتائجه من الإختبارات ومن التجارب التطبيقية التي يثبتها العلم تطبيقا للقوانين الثابتة هي كل ما لدينا وهي كل ما نريده ونطلبه. فإن كل ما هو مجرد لم يجلب علينا إلا المتاعب في الماضي إذ أنه لم يكن إلا بدع الخيال البشري وكلما حاولنا تحقيقه في الواقع أدى بنا إلى فشل مرير مما أوصل إلى فقدان قيمتها مع مرور الأيام. لذلك نرى بأن الفلسفة لم تعد الشيء الذي يسعى وراءه العالم للحصول على أجوبة.
في عصرنا هذا لا يوجد فلسفة نقية بل أن الفلسفة أخذت تمتزج بعلم النفس وعلوم أخرى متنوعة. حتى أننا نرى أن التكنولوجيا بدأت في الدخول في مجالات العلوم والفلسفة للبحث عن مصادرها. ولذلك نحن لا نرى اليوم أن الفلسفة حية بحد ذاتها ولولا إرتباطها بالعلوم الأخرى لم تكن قادرة على التواجد إلى الآن.
لنرى ما الذي يقوله صاحب السلم في هذا الأمر، ولماذا هذا الموضوع هام بالنسبة له. فقد قال: ((هذا لسبب أن الفلاسفة يعتقدون أنهم يعلمون الجواب لجوهر الحياة بالرغم من أن لديهم آلاف من الآراء المتنوعة حول موضوع جوهر الحياة وهدف الإنسان فيها وذلك لأن جميع أجوبتهم قائمة حسب أحداث التاريخ المتقلبة وبما أن التاريخ في هذه الحالة يشكل سلسلة من الأخطاء وخيبات الأمل المتكررة على مدى حقباته مما يجعل نتائجهم وحلولهم لا صلة لها بالموضوع نفسه لكي يكونوا مؤهلين لإعطاء جواب صحيح عن موضوع جوهر ومعنى الحياة)).
تعتقد الفلسفة بأن الروحي أنتج أو أحدث ما هو مادي وأن النفس هي التي خلقت الجسد. وهذا التصريح يشكل معضلة من دون حل إذ أنه يتطلب الترابط بين العالم الروحي والعالم المادي إذ أن الترابط يصبح أساسيا. ومن ناحية أخرى تنص الفلسفة على أنه لا يوجد أي علاقة بين الروحي والمادي، والروحي ليس له أي تأثير على المادي، ولهذا لا يوجد أي تداخل بين العالم الروحي والعالم المادي، وبناء على هذا لا يتمكن الروحي من أن يولد المادي.
إلى جانب هذا نجد أن علم حكمة الكابالا يبقى محافظا على الفكر أن الإنسان قادر على مناقشة وحوار ما يستطيع الإحساس والبحث فيه فقط. لذلك حتى أن المحاولة في تعريف الروحي يوحي أو يفترض ضمنا إمتيازه وإنفصاله عن المادي. ففي البداية يحتاج الإنسان إلى إحراز العالم الروحي عن طريق علم الكابالا ليكون قادرا على الوصول إلى الإحساس بالعالم الأعلى.
إن علم حكمة الكابالا لا يعمل على دراسة القوى العليا ولا يحاول إثبات قوانينها بما أنه يعرف نفسه على أنه علما تجريبيا وإختباريا لذلك لا يتكلم عنما هو خارج إطار وإمكانية الإنسان فيما يستطيع إحرازه. وأنه لا يلغي الإحراز بما أن تعريف الغير موجود ليس ذو قيمة أقل من الموجود. فعلى سبيل المثال إذا نظرنا إلى مادة أو جوهر ما من مسافة ليست ببعيدة نستطيع تحديد وإظهار كل العوامل المفقودة فيه فهذا يعتبر على أنه برهان وإنجاز معين لأنه لو كان هذا الجوهر أو هذه المادة أكثر بعدا عنما قبل لكان من المستحيل تميز وتبين العوامل المفقودة فيه. لذلك إن المبدأ الرئيسي لعلم الكابالا هو “إن الشيء الذي من غير الممكن إحرازه يكون من غير الممكن تسميته”، بما أن إعطاء الشيء إسم أي أننا نستطيع تعريف هذا الشيء على أنه من الممكن إحرازه. فإن النور الأعلى الذي تحرزه النفس والإحساس بالقوى العليا وأفعالها يصفها علم الكابالا بأدق تفاصيل تحليلها وتجربتها كتلك التي لأي من العلوم الموجودة في عالمنا المادي.
يصف علم الكابالا العالم الروحي على أنه شيء غير متعلق تماما بالزمان أو المكان أو المادة، بل أنه عالم منشأ أو مصدر القوات غير متقلد في جسد. لذلك نحن غير قادرين على فهم النور الروحي على الإطلاق لنتمكن من تعريفه ومن تسميته، فلطالما يوجد النور خارج الإناء الروحي للإنسان ليس بالإمكان فهمه ليتمكن الإنسان من تسميته لأن كلمة النور ذات معنى مجازي ولذلك السبب يصعب على الإنسان إدراكه. ففي وصف النور يتكلم علم الكابالا عن تفاعل وتجاوب الإناء الروحي في حال تواجد نوع من الإتصال بينهما ولا يتكلم مطلقا عن جوهر النور وماهيته.
إنه من الممكن على الإنسان إحراز النور، وهذا الإحراز يدعى باللغة العلمية -المادة والشكل- أي إتخاذ المادة بداخل شكل معين ليكن بالإمكان إدراكها من قبل المنطق الإنساني، ففي هذه الحالة الشكل يكون نتيجة الإنطباع الذي يحصل عليه الشخص من خلال شعوره بالنور والقوى- النور هو المادة. فالإحساس بشعور المحبة الذي يملاء الإناء يشار إليه بالتعبير الشكل من غير المادة.
فعلى سبيل القول نحن نعرف أن كلمة حب إذا لم ترتبط بإسم أو بشيء معين تبقى ذو معنى مجردا لا يمكن إدراكه وفهمه ولكن إذا أعطيناها شكلا كما في قولنا “حب الخالق” عندها يكون من الممكن تعريفها “بالشكل”. الإنخراط به ما يدعى ” إكتساب الشكل” .
هذه الخلاصة هي نتيجة بحث علمي صلب وبما أن جوهر الحب نفسه يبقى في إحرازنا كجوهر النور أي أنه شيء مجرد للمنطق والإدراك الإنساني أي عبارة عن مفهوم فقط. ولكن في حال تلقينا هدية كرمز عن المحبة، تأخذ المحبة طابعا أكثر أهمية لأنها تقيم ليس بقيمة الهدية بل أنها تحتم وتحدد عظمة المعطي نفسه. فإن المحبة والتقدير هما الذين يعطيان هذا الموقف معنى الأهمية المطلقة، إذ يصبح شعور المحبة أمرا مجردا تماما عن المادة ليبقى إحراز المحبة شعورا دائما بينما لا تترك الهدية أي أثر في القلب. وهذا هو أهم جزء في العلم الذي يطلق عليه “الشكل في حكمة الكابالا”.
إن الحب مقسم إلى أربع مستويات والتي تتماثل مع مستويات شعور الحب عند الإنسان.عندما يتلقى الشخص هدية فهو لا يشعر بعد بشعور المحبة تجاه الذي وهبه هذه الهدية وخاصة إذا كان المعطي على مستوى أعلى بكثير من الذي تقبل الهدية. لكن إذا أخذ عدد الهدايا بإزدياد بشكل ثابت يشعر الشخص أنه بالرغم من أن المعطي صاحب سمو وعظمة يستطيع أن يبادله شعور المحبة وكأنه على درجة متكافئة معه. فإن قانون الحب بين شخصين ينص على وجوب تواجد الإثنين على نفس المستوى. وهنا بإمكاننا تحديد أربع مستويات للمحبة:
١- تقديم الهدية يدعى عالم عاسيا.
۲- تقديم الهدايا بشكل متكرر يدعى بعالم يتسيرا.
۳- إظهار جوهر المحبة يدعى بعالم بريا. في هذه المرحلة تبدأ دراسة “الشكل” في علم حكمة الكابالا لأنه في هذه المرحلة تم الفصل بين المحبة والهدية. فإن النور يترك عالم يتسيرا أي أن الحب يبقى وحده ومن دون النور أي من دون الهدية.
٤- بعدما يصل الحب إلى المرحلة النهائية وإنفصاله عن المادة يستطيع الإنسان الإرتقاء “إحراز” من مستوى الظلمة “العالم المادي” إلى مستوى عالم أتسيلوت المكان الذي فيه تعود المادة لترتدي الشكل بمعنى أنه لا يعود هناك فرق بين النور وبين شعور المحبة إذ أن الإنسان يشعر بهما وكأنهما شعورا واحدا.
نحن نعي بأن الروحية هي عبارة عن قوى منفصلة عن الجسد وليس لها أي صورة مادية أو حسية، فهي ميزة خاصة وليس لها أي علاقة أو نوع من الإتصال بالعالم المادي أي عالمنا هذا. فإذا كان هذا صحيحا، كيف يكون من الممكن للروحي إبداء المادي وبعث الحياة فيه؟
تعتبر القوة في حد ذاتها مادة حقيقية كأي مادة محسوسة في عالمنا. وفي عدم وجود صورة حسية لهذه المادة حتى يستطيع الإنسان إدراكها من خلال حواسه الخمسة لا يضعف أو يقلل من قيمتها. فإذا أخذنا الأوكسجين على سبيل المثال والذي هو أحد أهم العناصر الكيميائية بما أنه يوجد في الكون كله إذ أن الأوكسجين ثنائي الذرة يشكل ٨،۲٠٪ من العناصر الموجودة في الهواء. في ظروف الحرارة والضغوط القياسية يتواجد الأوكسجين في الحالة الغازية. فإذا أخذنا زجاجة من الأوكسجين النقي، ففي النظر إلى الزجاجة تبدو وكأنها فارغة إذ أن الأوكسجين في حالته الغازية لا يمكن رؤيته أو شمه أو تذوقه أو جسه، وهكذا الأمر أيضا بالنسبة للهيدروجين والذي هو غاز عديم اللون والرائحة ويعد أخف العناصر الكيميائية وأكثرها وفرة في الكون حيث يشكل ٧٥٪ من حجم الكون، ولكن في حال دمج هاتين المادتين فإن في تفاعلهما معا تنشأ الرابطة الهيدروجينية في الماء السائل والثلج، نتيجة لقوى التجاذب الكهربائي بين ذرة الهيدروجين في جزيء وذرة الأكسجين في جزيء آخر مجاور. ويكون لذرة الهيدروجين القدرة على تمركز نفسها بين ذرتي أوكسجين ترتبط بأحداها بواسطة رابطة تساهمية قطبية وبالأخرى بواسطة رابطة هيدروجينية. توجد هذه الرابطة في المركبات التي تحتوي جزيئاتها على ذرة هيدروجين مرتبطة برابطة تساهمية مع ذرة أخرى ذات سالبية كهربائية عالية، والماء هو مثال لهذه المركبات.
فالماء مركب كيميائي مكون من ذرتي هيدروجين وذرة من الأوكسجين. ينتشر الماء على الأرض بحالاته المختلفة السائلة والصلبة والغازية. وفي الحالة السائلة يكون شفافا وبلا لون ولا طعم أو رائحة. وفي الحالة الصلبة يكون فيها الماء على شكل جليد أو ثلج عندما تكون درجة حرارة الماء أقل من الصفر المئوي. وأما في الحالة الغازية يكون فيها الماء على شكل بخار عن طريق الغليان. كذلك الحال بالنسبة إلى القوات التي تعمل في الطبيعة. فبما أنها غير مرئية بالنسبة لدينا يكون من المستحيل إدراكها من خلال حواسنا الخمسة. ولكن من ناحية أخرى نرى الواقع في كيفية تحول مادة واحدة إلى عدة أشكال على شكل واقع ملموس، لذلك نرى بأن معظم الصور المألوفة والمطبوعة في إدراكنا لا يمكنها التواجد بشكل ثابت ومستمر بسبب خواصها المميزة والإستثنائية وبما أنها مستمدة أو ناتجة عن إدراك الإنسان الحسي من خلال حواسه الخمسة في نظام الأنا فيه. فإن جوهر المادة يكمن في”القوى” المتواجدة فيها وإن تعريفنا لقوة ما بنكران إرتباطها بمادة معينة ليس إلا عبارة عن شيء شاذ وبعيد الإحتمال. فإلى أن يتطور العلم حتى يأخذ شكله الكامل والمثالي يجب علينا أن نعتمد على ما هو ذو واقع صلب وملموس فقط.
بما أن حكمة الكابالا هي علم حقيقي يسعى وراء الإحراز الواقعي للكون لا يوجد فيه مكان لأي سؤال يدحض الواقع الحقيقي ويلغيه. فإن الكون مؤلف من الإناء “الرغبة” ومن النور “الملذة” وإن الفرق بينهما يظهر في الخليقة الأولى في إنفصالها عن القوى العليا. وكما ذكرنا في البحث في مراحل النور الأربع فإن الخليقة الأولى “المرحلة الأولى” هي الأكثر طهارة إذ أنها كانت ممتلئة من النور إلى التمام والكمال إذ أنها كانت تتلقى المسرات والملذات من جوهر القوى العليا والتي رغبتها هي في أن تملاء الإناء بالإكتفاء التام.
يمكن تقدير حجم المسرة أو الملذة حسب قدر الرغبة في تلقيها. فكلما ازدادت قوة الرغبة في التلقي كلما إزداد الشعور بلذة المسرة التي تتلقاها. لذلك إن الخليقة الأولى “الإرادة في التقبل” منقسمة إلى فئتين:
١- جوهر المتلقي– الرغبة في التلقي أو جسد الخليقة، والتي هي الإناء لتلقي المسرات.
۲- جوهر الملذة نفسها– أي نور الخالق الذي يفيض بإستمرار نحو خليقته.
وهكذا فإن كل جزء من أجزاء الكون يتكون من خاصيتين متداخلتين لأن “الإرادة في التقبل” هي أساس الخليقة وهي سمة لا تتواجد في القوى العليا ولذلك دعيت بالخليقة.
أما بالنسبة عن كيفية إبداء الروحي لما هو مادي وبعث الحياة فيه يبدو أنه أمر صعب الإدراك إذا اعتبرنا أنه لا يوجد هناك علاقة بين الروحي والمادي. ولكن واستنادا على بحوث وتجارب علماء الكابالا الموثقة ببراهين قائمة على قوانين الطبيعة العلمية والفيزيائية والذين اكتشفوا بأن هناك تشابه وتماثل بين كل ميزة روحية ومثيلتها في العالم المادي ومن هنا نجد بأن الفرق يكمن في المادة فقط أكانت روحية أم مادية، إذ أن جميع السمات الروحية تعمل من خلال المادة في العالم المادي.
هناك ثلاث مفاهيم خاطئة في محاولة فهم ماهية الروحي والمادي:
١- إن قوة الفكر الإنساني هو جوهر الإنسان أي نفسه الخالدة.
۲- إن الجسد البشري عبارة عن إمتداد النفس ونتيجتها.
۳- الجوهر أو المادة الروحية ذو تركيبة بسيطة وغير معقدة.
إن هذه الإفتراضات الخاطئة أثبتت عدم صحتها من قبل علم النفس المادي ومنذ ذلك الحين أثبتت بأن كل من يبتغي إحراز العالم الروحي يستطيع ذلك عن طريق علم حكمة الكابالا.