www.hikmatelzohar.com-trans187

تطور المجتمع الصحيح

إن تطور البشرية على أساس أناني “من أجلي أنا” أدى إلى تكوين فارق كبير بين المستوى الأخلاقي للبشرية وبين مستواها العلمي. وهذا هو بالضبط الأمر الذي خشاه أريسطاطل وأفلاطون عندما منعوا تدريس العلوم من كل من لم يكن ذو مستوى أخلاقي عفيف هل هناك علاقة بين المستوى الأخلاقي للإنسان “الرغبة” وبين قدرته العلمية؟ بالطبع! لأنه في حالة انعدام النية الصحيحة والأخلاق العالية لا يمكن ـ بواسطة البحث العلمي ـ إدراك القوانين الطبيعية أو القوانين الإجتماعية بصورتها الحقيقية، بل بصورتها الضيقة ومن وجهة نظر معينة وبالتالي ننظر إلى فعاليتها في عالمنا الضيق من خلال زاوية حادة ، وذلك لأننا نبحث برغبة أنانية ومن ثم فإننا نستوعب جزء ضئيلا من مجموعة التفاصيل الدقيقة والمهمة والفعالة في بنية محيطنا.

كل قانون يكون ساري المفعول في جميع مجالات الحياة، سواء في هذا العالم أو في العالم الروحي. ولكننا نستطيع أن نراه ونشعر به وبمدى فعاليته إذا كنا في حالة توازن مع هذا القانون . وهذا يعني أنه يجب علينا أن نكون ذو ميزات تلائم ميزات قانون الوجود، أي : ميزات الغيرية أي “حب الغير” والعطاء، فهذه هي صفات العالم الروحي.

هل أن ميزات الإنسان تسبب في تغيير قوانين الطبيعة وميزاتها؟ كلا! إن قوانين الطبيعة لا تتغير أبداً، وكذلك لا يحدث أي تغيير في التفاعل والتأثير المتبادل بين قوات الطبيعة المختلفة، إنما الطبيعة تتجلى بعدة صور وأشكال، وفقا لميزات الباحث الذي يدرسها . الطبيعة ترى للباحث من وجهة نظر مختلفة وليس كقانون آخر. يتفهم الإنسان ما يستوعبه ويشعر به بواسطة حواسه الخمس فقط ، وهذا يعني أن شعور الإنسان هي شخصية وخاصيتة التي يرى العالم بواسطتها يجب علينا أن نتغير. كما أشرنا الطبيعة لا تتغير، وبنتيجة تغير الإنسان لنفسه تتغير نظرته إلى الكون ويستطيع معرفة قوانين الطبيعة على حقيقتها . ومن المدهش ، إن الإنسان يعتقد بـأنه يغير الأشياء التي تحيط به، ولكن بالفعل لا يتغير شيئا سواه! وهذا التحول الذي يتجاوزه يجعله يشعر وكأن الطبيعة نفسها قد تغيرت.

ما هي الطبيعة ؟ وما هي قوانين الكيمياء والفيزياء وقانون القوة الجاذبية وغيرها ؟ هل تتغير هذه القوانين وفقا لسمات الإنسان ؟ كلا! إن ما يتغير هو الفكر الذي يدرك به الإنسان قوانين الطبيعة. الإنسان يشعر بتغيير في إحساساته فيتوهم بأن التغيير يحدث في محيطه . والسبب في ذلك هو إعتقاده بأنه مركز الخليقة الذي لا يتغير. والإنسان، عندما يغير ميزاته، عندها يجد توازن بينه وبين الطبيعة من حوله، ويشعر بهذا بصورة واضحة وجلية. والتطورات الوحيدة التي تحصل في الخليقة هي تطورات التغير الداخلي في ميزات وسمات الإنسان، ونتيجة هذه التطورات هي شعور الإنسان وكأن الإرادة العليا قد تغيرت نحوه. ولذلك، يجب علينا أن نعرف كيف نغير ميزاتنا الداخلية، لكي نستطيع أن نغير قوانين الطبيعة لصالحنا. وعندما نعرف كيف نفعل هذا، ستكون النتيجة جيدة بالتأكيد وسيكون مستقبلنا أحسن من ماضينا ومع تطور العلم، إكتشف العلماء بـأن الإنسان قادر على التأثير على ظواهر الطبيعة . ويقال أن نتائج الإختبارات العلمية متعلقة بالميزات الشخصية للباحث. فما عسى أن يكون مغرى هذا الأمر؟ يقولون أن نتائج الإختبارات العلمية الدقيقة تتأثر بشخصية الإنسان الذي ينجزها. وبطبيعة الأمر، توجد إختبارات أخرى أكثر صعوبة ونتائجها لا تتعلق بالباحث على الإطلاق. أي أنه إذا كان الباحث صديق أو شرير- ستكون النتيجة واحدة. ولكن الطبيعة تحتوي على ظواهر أكثر نعومة ودقة من المادة، ونتائج البحث فيها تتعلق بالميزات الشخصية للباحث وسوف نكتشف في القريب العاجل بأن تزويد العلماء بالأدوات ـ وحتى لو كانت هذه الأدوات في غاية الإتقان والدقة ـ أمر غير كاف، بل هناك حاجة ماسة لعلماء متمرنين بوسعهم التأثير على الطبيعة بصورة صحيحة. إننا جميعا نؤثر على الطبيعة بمحض وجودنا فيها ، والسؤال هو : ما هو التأثير الصحيح الذي يجب أن نتركه. من المحتمل أنه في مرحلة التطوير القادمة، لن يحتاج العلم إلى أدوات ميكانيكية ، ألكترونية ، كهربائية، بصرية أو أجهزة للتصغير والتكبير، بل ستكون الآلة هي الإنسان نفسه، الذي يبحث هذا العالم ويعرف كيف يؤثر عليه بصورة صحيحة ولكن ، كيف نعرف ما هو التأثير الصحيح ؟ وما هو العلم الذي يبحث العلاقات بين تأثير الإنسان على الطبيعة وبين النتائج التي يحصل عليها من الطبيعة نتيجة هذا التأثير ؟ إنه علم حكمة الكابالا. عن طريق علم الكابالا يتعلم الإنسان كيفة تأثير سلوكه في الوجود من حوله وتأثيره عليه، وكما هي الحال في العلوم الأخرى تستعمل الكابالا مصطلاحات معينة ودقيقة ، فإن لغة الكابالا لغة علمية ففي أي بحث علمي، إن ما نريده من الطبيعة التي تحيط بنا هو الحصول على المعلومات الضرورية لكياننا وعلى الأشياء التي نحتاج إليها ، وسيكون بوسعنا ، في القريب العاجل، أن نحصل على هذه المعلومات والأشياء بمجرد إستخدام ميزات الإنسان نفسه ، بدون الحاجة إلى كافة الأجهزة والأدوات التي اخترعها بنفسه تعلمنا حكمة الكابالا معنى الميزات التي تتيح للإنسان البحث في الوجود بصورة صحيحة، وتساعده على اكتساب هذه الميزات الضرورية التي تسمى “الميزات الروحية” والتي تؤدي إلى التأثير على العالم، كما وأنها تكشف للإنسان عن سر الأمور وتعلمه كيف يتمكن من التأثير الإيجابي على الخليقة والحصول على أحسن نتيجة ممكنة . وطريقة تأثير الإنسان على محيطه تسمى ” بالرغبة ” فالكابالا هي علم إدارة الوجود، والعالم وخاصة في الوقت الراهن بحاجة ماسة لها، فهي الطريقة الوحيدة للإنسان ليجد التوازن مع الطبيعة من حوله ولإرتباطه بالخالق.
بالإضافة إلى هذا، لم يبحث أحد بعد وبشكل علمي في إمكانيات ضبط مصير الإنسان ما عدا علماء الكابالا، والسبب في ذلك هو إن التأثير في إدارة الكون غير ممكن إلا  عن طريق حكمة الكابالا . فهذه الحكمة هي الوحيدة التي تكشف عن حقيقة هدف الخليقة وعن كيفية الوصول إلى هذا الهدف . فهذه المواضيع هي من خاصية بحوث علم الكابالا. تعتني الكابالا في البحث والتفسير الدقيق لقوانين الطبيعة من خلال براهين علمية ثابتة ومثبتة وتوفر للإنسان الوسائل التي تساعده في تغيير نفسه عن طريق تبني سمات الخالق وبالتالي إيجاد التوازن مع الطبيعة ومحيطه من حوله. الهدف هو بسيط وواضح – وهو الوصول إلى حياة السعادة والطمأنينة أي الوصول إلى الحياة الكاملة والأبدية ، وهذا ما يبحث عنه الجميع في عالمنا هذا والذي يشكل  جزء صغير من مجموعة أجزاء الخليقة . ومثلما يبحث العلماء في ظواهر وقوانين هذا العالم المادي التي يدركها الإنسان بحواسه ، يحاول علماء الكابالا البحث في العالم الروحي وفي قوانينه لأنه فيه الجذور لكل ما يحدث هنا في عالمنا هذا، فبجانب الخالق لا يوجد إلا الخليقة أي الإنسان وعلم الكابالا هو الطريقة الوحيدة التي تشرح العالم الروحي والقوى العليا “الخالق” والإنسان من أين أتى وما هو مصيره وهدف وجوده.

 

peace-حكمة الكابالا والزوهار

كان هناك رجلاً حكيماً يعمل محاولاً أن ينشر السلام والوئام بين الناس في المدينة التي كان يعيش فيها مدينه بابل وكان اسم هذا الرجل إبراهيم. وكالعالِم الذي يبحث عن براهين علمية أخذ إبراهيم عليه السلام في النظر متحققاً ببنية وقوانين العالم من حوله وفي كل ما كان يحدث في مدينة بابل باحثاً في تاريخها. ومن هنا أخذ يُرتب أجزاء صورة الطبيعة الإنسانية المبعثرة من حوله محاولاً ربط هذه الأجزاء معاً بحسب القوانين التي تأسس الكون عليها ليجد التوازن بين الطبيعة الإنسانية والبيئة التي يعيش فيها الإنسان وكيفية التأثير المتبادل لكل منهما على الآخر ودور الإنسان وهدف وجوده في هذا العالم.

من خلال بحثه ودراسته لقواعد القوانيين الطبيعية وجد أن الإنسان هو العامل الوحيد الخارج عن نظام وإطار هذه القوانيين التي وضعها الخالق. فقد نجح سيدنا إبراهيم في إدراك وفهم عمل القوة وراء الطبيعة وأدرك عظمة الفكر الذي عمل الكون والحياة فيه وأظهر من خلال براهين علمية هدف وجود الإنسان في هذا العالم في مساعدته على تصحيح طبيعته البشرية أي “الأنا” التي ولد فيها وإحراز مصدر ومنبع الحياة من خلالها في إنسجام متكامل مع البيئة من حوله. ولكن الإنسان منهمك في المحاولة في السيطرة على الطبيعة وعلى العالم من حوله متجاهلاً جميع تحذيراتها التي توجهها له في كل مرة يتعدى حرمة قوانينها إذ أن سعيه وراء ملذات الحياة والسيطرة على من حوله وحبه لذاته أعمى بصره لدرجة أنّ حب الذات لديه فصله تماماً عن الطبيعة من حوله والتي هو جزء منها وهذا ما يُسبب له المعاناة التي يواجهها في هذه الحياة.

تنهد إبراهيم متسائلاً في نفسه “آه، لو أن هؤلاء البابليون يفهمون سر الحياةا”. عندها أخذ يُظهر لهم شارحاً القوانين التي يَسير عليها الكون وكيفية تعامل الطبيعة مع الإنسان حسب نوعية سلوكه نحوها. وأظهر شارحاً لهم أن رد فعل الطبيعة في عزل الإنسان عن الآخرين هو إعطاء الفرصة لكل شخص لينمو بشكل صحيح معتمداً على نفسه، لنقل على سبيل المثال إذا كان الإنسان يلعب لعبة الشطرنج نرى أنه كلما زادت الصعوبات التي يواجهها وزادت التحديات في الوصول إلى الهدف كلما حصل على مهارة أكثر وذكاء أرفع في براعته في اللعب والوصول إلى درجة يصبح فيها سيّد هذه اللعبة.

هكذا الأمر أيضاً في تعامل الطبيعة مع الإنسان إذ أنها تزيد من رغباتنا الأنانية في الحصول على المزيد من كل شيء وذلك لهدف تنمية الإنسان لنفسه. وفي التغلب على الصعوبات في كل مرحلة من مراحل نمو “الأنا” فيه يتلاشى حائط العزلة بين أبناء البشر وبالتالي ومن خلال هذا الترابط يستطيع الجميع الوصول إلى إنسجام مع البيئة وإدراك مسار الحياة. هذا الترابط ما يجمع البشرية بأكملها في وحدوية وكأنها عائلة واحدة فيها يهتم كل شخص بحاجات الآخرين كما يهتم الإنسان بحاجات أفراد أسرته وإن الصعوبات التي تواجه الإنسان في إرتباطه مع الآخرين للمحافظة على الوحدوية هي لعبة الحياة . هذا ما أظهره لنا سيدنا إبراهيم عليه السلام.

لكن بخلاف لعبة الشطرنج الشيء الوحيد والأكثر أهمية في لعبة الحياة، أنه من الصعب بل من المستحيل أن يغلب الإنسان إذا لعب لوحده إذ أن الشرط الوحيد للربح هنا هو في التعاون مع الآخرين وهذا هو معنى التضامن المتبادل بين الناس.

إن تضاخم “الأنا” في الناس أدى بهم إلى بناء برج بابل والذي إنهار فيما بعد. هذه المجموعة من الناس الذين تبددوا على وجه الأرض هم الذين أنشأوا الدول والأمم والمجتمعات ولكن مجموعة قليلة من هؤلاء الناس تمسكوا بتعاليم سيدنا إبراهيم عليه السلام. وبنوا كافة بحوثهم على مبدأ محبة الإنسان لأخيه الإنسان. عملت هذه المجموعة كل ما في استطاعتها للمحافظة على الإرتباط معاً من خلال محبة الآخرين بالرغم من جميع الصعوبات التي واجهتها عبر الزمن.

وها نحن الآن وبعد أربعة آلاف سنة من زمن سيدنا إبراهيم نجد أنفسنا في عصر قد تضاخمت فيه “الأنا” وتعاظمت إلى أقصى درجاتها وها هي الآن تدفع الجميع ونحن معهم أيضاً لبناء برج بابل الحديث والذي يتجسد في مدى ترابط المصالح، هذا هو الموقف الذي يجد العالم نفسه فيه في إعتماد كل دولة على الدول الأخرى للبقاء. لكن وبخلاف عصر إبراهيم إن هذه الأزمة التي نعيش فيها اليوم لا يوجد أي سبيل للفرار ولا للنجاة منها. اليوم وأكثر من أي زمان مضى يجد العالم نفسه في حاجة ماسة إلى طريقة تساعده في التعامل مع درجة أنانية الإنسان التي إستولت على العالم والتي ستؤدي إلى تخريبه. وها نحن الآن الأمة التي وُجدت وتأسست على قانون محبة الآخرين يتوجب علينا أن نأخذ المسؤولية على عاتقنا في كوننا مثالاً حي للعالم في إثبات ما كان يعلمه سيدنا إبراهيم عليه السلام مثبتين أن الإرتباط المتبادل بين البشر بناءً على أساس محبة الآخرين هو الحل الوحيد للمعاناة اليوم.

إن مبدأ “أحب قريبك كنفسك” والذي هو مبدأ الحياة وبنية وأساس المجتمع هو كل ما في حوزتنا لنقدمه للعالم. إن المجتمع المبني على هذا الأساس هو مجتمع صحيح في جوهره وللكراهية لا محل فيه. ففي طيات جسد “الأنا” توجد شرارة النور التي أضاءها سيدنا إبراهيم عليه السلام وهو الذي حفرها ونقشها فينا من خلال الأجيال الماضية. وإذا كان في إرادة كل منا إنعاش هذه الشرارة لتتوهج بلهيب المحبة للآخرين ستُنعش هذه الشرارة حياتنا وتجلب النمو والإزدهار للمجتمع الإنساني الذي يتمنى كل شخص العيش فيه.

إن رغبتنا في التعاون المتبادل تسطع بالنور من صميم قلوبنا فالجميع يرغب في مجتمع يسوده السلام والمحبة كما العائلة الواحدة. فإن جميع الأحداث منذ بداية تاريخ البشرية إلى يومنا هذا تقودنا اليوم لإظهار مبدأ التعاون المتبادل بين البشر الذي أسسه أبونا وسيدنا إبراهيم عليه السلام.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*