www.hikmatelzohar.com.24

الإِرادة الحرَّة

في هذا الدرس سنتطرق إلى موضوع أساسي وهو موضوع الإرادة الحرة والذي ما يزال موضوع غامض للكثيرين وغير مفهوم عند الأغلبية من العامة. موضوع إذا ما كان الإنسان يملك الإرادة الحرة أم لا هو موضوع يدور حوله أسئلة كثيرة.

لقد حاول الفلاسفة عبر التاريخ إيجاد جواب للسؤال : “هل يوجد هناك إرادة حرة”؟ فقد حاولوا أن يعرفوا مظهرين بوضوح معنى مفهوم الإختيار ووصلوا إلى التيجة بأنه يوجد هناك حرية إختيار ولكن محدودة وفي المجتمع فقط لهؤلاء الذين يمتلكون شخصية بالغة التهذيب ،ولكنهم فهموا فيما بينهم بأنهم لن يتمكنوا من السيطرة على المستقبل لوجود الإحتمال الدائم في أن يواجه الإنسان مصائب تغير حياته على شكل كامل كأن يقع الإنسان ضحية حادث مؤسف أو أن يصاب بمرض مزمن وعلى أثره يقع في غيبوبة تامة. وطبعا بإمكان الإنسان أن يتجاهل غياب حرية الإختيار هنا مقتنعا بأن هذه الأمور لن تصيبه هو ولكن هذا التجاهل لن يسهل أمور الحياة عليه. وحتى النمو والتطور الوراثي لم يحسن وضعنا أبدا بل رسخ التفكير في عدم ملكية الإنسان لحرية الإختيار وكأننا جميعنا موجودون في حجرة مغلقة مقيدين بقيود الجينات التي ولدنا بها والتي لن نتمكن الفرار منها أبدا.

ومن ثم أتى علم الكابالا والذي يعتبره علماء الكابالا على أنه أعلى درجات تطور العلم لنجد أننا لسنا فقط مكبلين بقيود الجينات البيولوجية ولكن أننا مبرمجين من خلال سجل المعلومات التي تداولت منذ بداية وجود الحياة البشرية والتي حفرت في الدماغ والقلب والنفس .هذه المعلومات هي التي تقرر وتحد حياتنا.

ففي هذا العالم نحن معتمدين وبشكل كامل على العناية الإلهية بشكل تام إذ أننا مجبرون أن نولد في هذه الحياة. نحن لا نختار وقت مولدنا ولا العائلة التي نرغب أن نولد فيها ولا نختار مواهبنا التي نحبذها ولا الناس الذين نفضل صحبتهم. كل سماتنا الشخصية محددة مسبقا وكل منا مولود وحظه معه.ففي هذا الوضع هل يوجد هناك حرية بتاتا؟

كل من الطبيعة والمجتمع الإنساني معا وجد حسب قوانينه الخاصة به وكذلك كل التغيرات التي تأخذ مجراها في هذا العالم لها قوانينها الخاصة أيضا والتي لا نستطيع تجاوزها. ليس هناك شيء يعتمد على الإنسان بتاتا ولكن كل ما يخص الجنس البشري مقضي به من الأعلى حتى محيطه الذي يعيش فيه والذي يتضمن كامل القوات التي تعمل فيه لتصل به إلى درجة التصحيح الكامل. فأي نوع من الحرية هنا نستطيع التكلم عنه أو حتى التفكير به؟ إذا كنا وجدنا لنطيع نظام الطبيعة فإن معنى وجودنا مبهم وغير واضح.

إن هدف الطبيعة ليس في أن كل ما ذكرنا سابقا في أن يستمر على حاله ومن دون أي مبرر بل أن يساعدنا في الوصول إلى درجة الكمال وبالتحديد من خلال إرادتنا الحرة، ولهذا السبب إنه من الضروري جدا إيجاد مكان حرية الإختيار هذا وفي أي شكل تتجلى حرية الإختيار هذه بوضوح.

فبالرغم من إدراكنا الحسي للإطار القاسي الذي يتواجد فيه عالمنا فإن الطموح في الوصول إلى الحرية يتحكم في حياتنا.إذا يجب علينا أن نعلم أي المجالات التي نملك حرية الإختيار فيها، ما الذي يعتمد علينا نحن ونستطيع تقريره بحرية، وما الذي يملا علينا من الأعلى وليس لنا أي قول أو إخيار فيه.

المشكلة هنا هي أن مرحلة التطور التي وصلنا إليها من تقدم في كافة المجالات تحول بيننا وبين رؤية كل التحديدات التي تتحكم بنا من الأعلى. فحتى لو كان هناك أفعال أوقرارت قليلة فيها نستطيع ممارسة حرية الإختيار إذا يجب علينا الحصول على الفهم التام لما هو مطلوب منا حتى نتمكن من استخدام حرية الإختيار لدينا لتغير أحداث قدرنا وأما ما يخص كل الأشياء الأخرى تبقى خاضعة تحت قوانين الطبيعة تلك التي بإستطاعتنا تغيرها وتلك التي لا نملك أي نوع من السيطرة عليها.

فما هو جوهر الحرية؟ بشكل عام نرى أنه يشار إليها بقانون الطبيعة والذي يتجلى في كافة مظاهر الحياة وجوانبها. رؤيتنا لعذاب الحيوانات عند وقوعها في الأسر شاهد على تحدي الطبيعة لأي أنواع العبودية، وحتى الإنسان وعلى مر العصور حارب دافعا الثمن غاليا جدا مقابل ولو الكم القليل من الحرية.

إن مفهومنا للحرية غامض إلى حد بعيد وقبل أن نطالب بحريتنا الشخصية يجدر بنا في البداية أن نعلم إدراك كيفية استخدام هذه الحرية. فإذا ألقينا نظرة تحليلية لأفعال الإنسان نجد بأن ليس واحد منها نابع من مبدأ الحرية الشخصية. فإن طبيعته الداخلية والظروف الخارجية المحيطة به تجبره على التصرف تماشيا مع طبيعته السلوكية التي ولد بها. فالطبيعة وضعتنا في المكان بين المتعة وبين المعاناة ولسنا أحرارا في إختيار المعاناة أو التخلص من الملذات أو المتع في الحياة.

بالنظر إلى الحيوانات نجد أن الإنسان هو الوحيد الذي يملك النمو والوعي في قدرته على رؤية الهدف أمامه ولذلك هو قادر على أن ينسجم أو يتقبل كمية معينة من المعاناة متوقعا أن تعوضه الحياة في المستقبل عنما عانى منه في الماض.ففي الواقع كل شيء يخضع لعملية حسابية إذا صح التعبير، ففي رؤية الملذة التي يترقبها الإنسان، وفي الإحتمال بالحصول عليها يوافق خاضعا للمعاناة في سبيل الحصول على المتعة أو الملذة التي يبغاها.

إذا قلنا على سبيل المثال بأن الأمر يتعلق بصحتنا سنجد أنفسنا راضين للخضوع لعملية جراحية صعبة ورب خطيرة إلى جانب دفع مبلغ كبير لهدف العيش بصحة جيدة ومن دون ألم، أو نوافق على العمل المضني للحصول على مقابل جيد يتيح لنا فرصة العيش براحة وهناء. فكل شيء هو نتيجة حساباتنا التي نجريها لنوازن بين قدر المعاناة والملذة التي سنجنيها منها فإذا فاقت كمية المتعة قدر المعاناة فإننا نعمل كل ما بوسعنا لنحصل عليها. هذه هي الطريقة التي صمم بها الإنسان وهذا هو الطابع الذي طبع به. فالأناس الذين يبدون على أنهم مغامرين أو مستهترين أو حمقى أو حتى الرومنسين منهم والذين لا يبالون في تضحية أنفسهم في سبيل أي شيء أو أي أحد ليس هم إلا أناس يجيدون حساب النتائج التي ستعود عليهم ولذلك نراهم يحتملون الكرب والعذاب في مقابل ما يبغون والذي ننظر نحن إليه وكأنه عمل بطولي ولكن في الواقع وفي أي من المواقف نجد أننا دائما نقوم بحساباتنا للحصول على أكبر قدر من الملذات.

يعترف علماء النفس بأنه من الممكن أن يغيير الإنسان أولوياته في الحياة إلى درجة أن الإنسان الجبان يصبح بطلا.فقد يسمو المستقبل إلى درجة رفيعة في عيني الإنسان ليضحي بأي شيء قابلا حتى الفقر المدقع ليصل إلى صورة المستقبل التي تلوح أمامه.ومن هنا نجد بأن ليس هناك أي فارق بين الإنسان والحيوان وإذا كان هذا حقا فالحرية والإختيار الذكي شيء غير واقعي ولا وجود له.

إذا فمن هو الذي يحدد ويحسم نوعية الملذات؟ فعلى ما يبدو عليه الأمر في هذه النقطة أنه لسنا فقط لا نملك حرية الإختيار ولكن حتى ميزة وصفة الملذة ليست هي حق مقصور على أي منا. فالملذة ليست نابعة أو حتى تتماشى مع إرادتنا الحرة ولكنها تفرض علينا من الآخرين فنحن لا نختار نمط وموضة الأزياء حسب عصرها ولا طريقة الحياة التي نعيشها وحتى الطعام إذ أنه مفروض علينا من محيطنا. فكل حياتنا مقيدة بسلوك وعادات المجتمع الذي نعيش فيه والتي أصبحت قانون الوجود والسلوك الإنساني. فإذا كان الأمر هكذا فأين هي حرية الإختيار لدينا؟ بناء على هذا يتضح بأنه لا يوجد لا جزاء ولا عقابا على جميع أعمالنا وأفعالنا.

إذا كانت حياة كل فرد منا تسير حسب القانون الذي يمليه علينا الآخرون وتفرضه علينا البيئة التي نعيش فيها إذا لماذا يعتقد الفرد بأنه مستقل بحد ذاته؟ ما هي الميزة الخاصة في كل منا؟ وأي من هذه الخواص نستطيع تغيرها؟ في تحديد وتصنيف هذه الخواص فينا يجب علينا أن نميز كل واحدة ونعمل على تنميتها.

كل شخص في هذا العالم مصمم من أربعة مراحل:

١- الأساس والذي هو المادة الأساسية التي صنع منها الإنسان وهذه هي الخاصية أو السمة التي لا يمكن تغيرها أبدا إذ أنها تحتوي على نظام نمو وتطوير هذه الخاصية.كحبة القمح حينما توضع في التربة نرى بأن القشرة الخارجية هي التي تتلاشى ولكن الخاصية التي تميز حبة القمح عن غيرها من الحبوب هي الأساس الذي ينمو منه البرعم الجديد؛ هوذا الحال أيضا بالنسبة للجسد إذ يتفسخ في التربة.

٢- الخواص الأساسية للمادة والغير قابلة للتغير. الأساس لا يتغير أبدا ولا يفقد أي من خصائصه البتة ولا يتخذ شكلا مختلفا مهما إختلفت الظروف.معتمدا بشكل كلي على البيئة التي يتواجد فيها من نوعية التربة والسماد ونور الشمس نحن نرى إختلافا في مراحل نمو البرعم الذي ينشأ من حبة القمح ولكن وبالرغم من كل التغييرات التي يمر بها البرعم ينمو ليصبح سنبلة قمح وليس شعير.

 

٣- الخاصيات التي تتغير تحت تأثير القوة الخارجية. متأثرا بمراحل النمو الخارجية نرى التغييرات في الجزء الذي يخرج من الأساس ولكن التغير لا يشمل الأساس نفسه، فحبة القمح تبقى في ذاتها حبة قمح ولكن الشكل الخارجي هو الجزء الذي يتعرض للتغير بحسب تأثير البيئة عليه.تظهر مراحل خارجية جديدة إضافية والتي تلتحق منخرطة مع الأساس وبالإتحاد معا يولدان صفة أو سمة جديدة تحت تأثير البيئة أي المجتمع الذي ينتمي إليه الشخص ووجوده مع المجموعة وطبعا تأثير الكتب والمعلم عليه.

٤- التغيرات التي تشمل القوة الخارجية.إن الإنسان بحاجة ماسة إلى البيئة أي المجموعة والتي تنمو بشكل مستمر والتي تؤثر على مراحل نمو الفرد بشكل مستمر وما دام الإنسان ينمو ويتطور يؤثر في دوره على البيئة أو المجموعة مجبرا إياها على النمو والتقدم أيضا ومعا ينمون سويا.

إن هذه العوامل الأربع تحدد حالة أو درجة كل مخلوق حي وحتى إذا أمضى الإنسان كل وقته في البحث فهو لا يستطيع تغيير أو زيادة أي شيء لما تتضمنه المراحل الأربع التي سبق ذكرها.فإن كل ما نقوم به أو نفتكر به قائم في مضمون هذه المراحل الأربع إذ أنها تحدد وبقوة معالم شخصيتنا وطريقة تفكيرنا.

١- الإنسان لا يستطيع تغيير جوهره.

٢- الإنسان لا يستطيع تغيير القوانين والتي يتغير جوهره بحسبها.

٣- الإنسان لا يستطيع تغيير القوانين وتغيير خصائصه أو سماته الداخلية الناتجة عن التأثيرات الخارجية التي يتعرض لها.

٤- البيئة التي يعيش فيها الإنسان والذي يعتمد عليها كليا من الممكن تغيرها.

drawing free well

 

قدرة الإنسان في التأثير على محيطه في الوقت الحاضر تجعله قادرا على تحديد مستواه في المستقبل. العوامل الوحيدة التي يستطيع محيط الإنسان أو بيئته التأثير عليه تكمن في سرعة وجودة نموه. فإما أن يعيش في ألم ومعاناة وخوف وصراع لا نهاية له في هذه الحياة، وأما أن يتقدم بهدوء وبسرعة وذلك ممكن لأن الإنسان يطمح إلى الهدف في ذاته ولهذا السبب نجد علماء الكابالا يحثونا بإلحاح على بناء البيئة الملائمة لتوعية جميع الناس على كيفية الحصول على حياة سعيدة وتجنب المعاناة وتحقيق هدف الخليقة .

إذا بالرغم من أننا لا نستطيع تحديد الأمور الأساسية بالنسبة لوجودنا في هذه الحياة، مثال كيف نولد ومن يولد في أي عائلة، لكن نستطيع التأثير على المراحل الثلاثة الأولى في إختيار البيئة التي نعيش فيها في مدى تأثيرها علينا أي وجودنا مع الأصدقاء الذين يدروسون علم الكابالا، والكتب التي نقرأها وتأثيرها على فكرنا ونفسيتنا وطبعا تلقي العلم من عالم الكابالا نفسه شيء مهم جدا. فالبيئة لها دور كبير جدا في التأثير علينا وفي صياغة وتشكيل مستقبلنا. إذا حرية الإختيار لدينا تتمحور في هذه النقطة في إختيارنا للبيئة والتي تؤثر علينا بنوعية التفكير الحسن. فإذا لم يسع الإنسان إلى هذا يجد نفسه في محيط غير صحي وجيد والذي يؤثر عليه بشكل سلبي وبالتالي لا يلقى إلا المعاناة والفشل في الحياة.

من هنا نرى أن المكافأة والعقاب يأتيان على الإنسان ليس كقصاص على أفكاره وأفعاله والتي لا يملك حرية الإختيار فيها بل من إختياره للبيئة التي يتواجد فيها بما أنه يملك حرية الإختيار في تحديد نوع البيئة في تأثيرها عليه. وهنا عقاب الإنسان يكون لهدف مساعدته في إعطاءه القدرة أن يختار البيئة الصحيحة لتساعده للوصول إلى هدفه في الحياة.

من هنا نرى بأن الإنسان الذي يبذل جهده في كل مرة في إختياره للبيئة التي يرغب في التواجد فيها يجد النجاح حليفه ليس بسبب أفكاره الجيدة بل بسبب إصراره ومثابرته في تحسين محيطه والذي يقوده إلى التفكير الحسن ولهذا يمنح تقدما ملحوظا في المستوى الروحي الذي يتوصل إليه.

روى الحكماء قصة في كتاب الزوهار عن إنسان فقير ولكنه حكيم، قدمت له دعوة من رجل غني جدا لكي ينتقل من مكانه إلى مدينة الرجل الغني ليعيش في بيته حياة مريحة يجد فيها كل إحتياجاته وأكثر مما يرغب به ولكن رفض الرجل الحكيم الدعوة قائلا للرجل الغني”مهما كانت الظروف وفي أي حال من الأحوال وجدت فإنه من المستحيل أن أقبل السكن في مكان لا يوجد فيه رجل حكيم” فقال له الرجل الغني “ولكن أنت أحكم من في عصرك فممن تستطيع أن تتعلم”. فأجاب الرجل الحكيم قائلا “حتى أن أعظم علماء الحكمة يصبح عديم المعرفة إذا أحاط نفسه بالبلهاء والحمقى“.

لذلك يجب علينا خلق البيئة التي تؤثر علينا بالتفكير الحسن إذ أنها العامل الوحيد الذي يقودنا إلى النجاح إذ أننا نعتمد عليها بشكل كلي. نحن جميعنا أسرى طبيعتنا الأنانية، وتحرير أنفسنا يعني التخطي فوق قيود وحدود هذا العالم ودخول الواقع الشامل. وبما أننا في قبضة هذا العالم تماما، نستطيع أن نطلق أنفسنا أحرارا حتى من طبيعتنا الأنانية بخلق محيط نضع فيه أنفسنا بين أناس يشاركوننا وجهة النظر نفسها ويشاركوننا طموحاتنا نحو الهدف لنرمي بعنان أنفسنا بين أيديهم خاضعين لقوانين العالم الروحي. فإن تحرير أنفسنا من حبال عبودية الأنا  “حب الذات-الأنانية” وإظهار ميزة العطاء معناه أننا نفهم وندرك معنى الإرادة الحرة عند الإنسان.

يتصرف الإنسان تلقائيا تحت تأثير العوامل الداخلية والخارجية التي تؤثر عليه بقوة في تسيير حياته وليس له إلا الخضوع لها ولكن إذا أراد أن يخرج من تحت سيطرة الأنانية ويهرب من قبضتها فلا بد له أن يعرض نفسه لتأثير البيئة الصحيحة التي إختارها. فبإختياره للبيئة الصحيحة والجيدة أي “المعلم والكتب والمجموعة التي تسعى في الطريق نفسه” لتملي عليه الفكر الحسن والسلوك الحسن شيء مهم جدا لمنحه القوة التي يحتاجها في التقدم نحو الهدف.

في إكتشاف أن عقل الإنسان هو حصيلة تجربته في الحياة نستنتج أن ليس للعقل سلطة على الجسد لأنه عبارة عن إنعكاس للظروف والأحداث التي مر الإنسان بها. فالعقل هو القوة التي تحرك الجسد وتوجهه نحو الأشياء المفيدة والجيدة وتبعده عنما يسبب له الأذية والضرر. لكن كما تستخدم العين المجهر في البحث عن أصغر الكائنات الحية كذلك خيال الإنسان يستخدم العقل لإكتشاف أي الأسباب مهما صغر حجمها وتنبه الإنسان الذي يأخذ بالإبتعاد عنها وهذا ما يسمح للإنسان تفادي التأثيرات الضارة عليه كالميكروبات والبكتيريا والفيروسات التي لا يستطيع الإحساس بها من خلال حواسه الخمسة. نحن نرى أن في الحالة التي لا يستطيع الجسد فيها كشف وضبط الأشياء في أي من حالاتها أي إذا كانت مفيدة أو ضارة له، نجد أن العقل يصبح وثيق الصلة بما يواجه الإنسان ليأخذ السيطرة الكاملة على الجسد مجيزا له بالإبتعاد عن أي مكروه.

مفهومنا في أن العقل هو إنعكاس لتجارب الحياة فالإنسان مفتوح ليتقبل تفكير وحكمة الآخرين وكأنها قانون الحياة، هذا إذا كان للإنسان ثقة بمصدر هذا الفكر وهذه الحكمة. ففي الوقت الذي يحتاج به الإنسان إلى طبيب نرى أن الإنسان يعتمد إعتمادا كليا على رأي الطبيب ويتابع تعليماته حرفيا بالرغم من أنه يجهل أمور الطب ولكنه يثق بالطبيب بشكل تام. إذا الإنسان قادر على استخدام عقل الآخرين كقدرته في استخدام عقله ليحمي نفسه من أي ضرر.

هناك طريقتان للسلطة العليا لضمان نجاح الإنسان في تحقيق هدف الخليقة في الوصول إلى التوازن مع سمات الخالق.

١- طريق المعاناة

٢- طريق علم حكمة الكابالا

إن طريق علم الكابالا يعتمد بشكل كلي على عقول الذين إستطاعوا إحراز العالم الروحي والوصول إلى الهدف الأعلى للخليقة ولكن كيف بإمكاننا التأكد من أن العقول التي نعتمد عليها في إحراز هدف الإنسان السامي في هذه الحياة جدير بالثقة؟ ولكن ومن الناحية الأخرى نرى أيضا بأن عدم إتباع ما أملاه علينا الطبيب وكـأننا ندين أنفسنا إلى طريق العذاب والشقاء الطويل والذي يؤدي بحياتنا في وقت لا نتوقعه بسبب جهلنا في معالجة أنفسنا من تلقاء أنفسنا.

هكذا هو الفرق بين طريق المعاناة وطريق الكابالا فالذي لا يملك الثقة والإيمان في طريق علم حكمة الكابالا يستطيع أن يحاول من تلقاء نفسه مارا في مصاعب الحياة بدلا من التعلم من هؤلاء الذين إختبروا وعلموا ما هو الصالح وما هو الطالح في هذه الحياة والذي بقدرته تسهيل وتعجيل مراحل التصحيح التي يتوجب على الإنسان العبور بها ليصل إلى النهاية وكل هذا يأتي عن طريق الجهد في الحصول على البيئة الصحيحة.

منذ بداية نمو البشرية نرى أن الطبيعة عملت على وضع الإنسان في مجتمع، والإنسان خاضع لقوانين هذا المجتمع وإذا خالف هذه القوانين يلقى العقاب إذا كان مدركا لهذه القوانين أم لا إذ أن قانون العيش الجماعي هو أحد قوانين الطبيعة ويتوجب الخضوع له وبحذر شديد. من ملتزمات هذا القانون هو تنمية الوعي عند الإنسان على أن محبة الذات هي شر ومحبة الآخرين هي الشيء الصحيح لأنها الطريق الوحيد إلى الخالق. ومع ذلك لا يوجد أي حق للأغلبية في قمع أو كبت رأي أي فرد في مجال علاقته بالخالق ولكل إنسان الحرية في أن يعمل ما يراه بأنه حق وصحيح من هذه الناحية فإنها حريته الشخصية. قوانين السلوك البشري أمر يملى به طبقا لمبادئ وأعراف المجتمع في حكم الأغلبية ولكن إذا كان يتعلق الأمر في علاقة الإنسان بخالقه فهذا أمر لا يحكم فيه إلا الإنسان وحده فهو الوحيد الذي يملك الحق في تنسيق وتنظيم علاقته مع خالقه.

ينص قانون المجتمع على وجوب خضوع الأقلية للأغلبية ولكن وعلى أي أساس يحق للأغلبية في أن تأخذ على عاتقها الحق في أن تكبح  وتسحق حرية الشخص الفردية مرغمة إياه وبإكراه في إتباع ما تنصه. بما أن الطبيعة فرضت علينا العيش في المجتمع البشري فكل فرد ملزم أن يخدم مجتمعه ويساهم من خلال الجهود المشتركة في بناءه وإزدهاره وهذا ليس ممكنا إلا عن طريق إذعان وخضوع الفرد لقوانين المجتمع، فإنه يتوجب على كل شخص إطاعة الأعراف والتقاليد المنصوص عليها في مجتمعه ولكنه من الواضح جدا أنه إن لم ينتهك الإنسان حرمة قوانين مجتمعه فلا حق للأغلبية في كبت وقمع حريته الشخصية ولا في أي شكل من الأشكال وهؤلاء الذين يعملون على كبح حرية الفرد في مجتمعه ليس هم  إلا مجرمين مستحقين القضاء لأن الطبيعة لا تجبر الإنسان على الخضوع لرأي الأغلبية وسحق حريته الشخصية.

لقد ثبت عبر التاريخ بأن الفرد ينمو ويتطور أكثر من العامة معا، وإذا بدأ المجتمع  ينمو ويتطور طبقا لقوانين الطبيعة ليدرك ضرورة تفادي المعاناة عندها يجب على المجتمع أن يخضع للفرد وأن يتبع توجيهاته وإرشاداته. وعندما يتعلق الأمر بالعالم الروحي فإن حق الأغلبية يتغير إلى واجبها في إتباع الفرد، والمقصود هنا بالفرد عالم الكابالا الذي أحرز العالم الروحي.فعلماء الكابالا هم أناس متقدمين وذو ثقافة عالية في معرفة أمور العوالم الروحية وهم يشكلون القلة الضئيلة من العامة ولكن جميع الإنجازات العظيمة في العالم الروحي يقرر فيها من قبل الأقلية.وبالتالي يتوجب على المجتمع الحفاظ على أفكار هؤلاء الأفراد إذ يجب أن يعي المجتمع بأن خلاصه ليس في يد الأغلبية الحاكمة بل في يد الأفراد المتنورين.

نتيجة التجارب التي خاضها الإنسان عبر التاريخ توصل إلى الإدراك أنه، وعلى الرغم من المساعي والجهود والمحاولات في تغيير مسار التاريخ وإتجاه نمو المجتمع، وجد بأن الحياة تسير دائما بخلاف ما يبغاه فارضة عليه قوانينها وطرقها.يرى الإنسان أن كل ما يحدث له ولمحيطه غير معتمد عليه أبدا فالحياة تأخذ مجراها بالرغم من توافق الإنسان معها أو معارضته لها.فهل هذا يعني بأنه حكم علينا بهذا القدر مدى حياتنا، وسنبقى خاضعين تحت حكم الحياة هذا من دون حول ولا قوة في تغيير أي شيء؟

دراسة الكون من خلال إتباع نظرية علم الكابالا أظهرت بأن جوهر الإنسان مكون من ثلاثة أجزاء:

الجزء الأول: الجزء الحيواني- ويظهر في رغبات الجسد الأساسية للبقاء كالطعام والجنس والسكن والعائلة وهذه الظاهرة توجد في كل إنسان بصرف النظر عن البيئة التي تعيش فيها.

الجزء الثاني:الجزء البشري- ويتجلى هذا الجزء في رغبات الإنسان في تحصيل السلطة والثروة والشهرة والمعرفة والتي من خلالها يعتمد الإنسان فيها على المجتمع بشكل كلي.

الجزء الثالث: الجزء الروحي- والذي خلق في داخلنا طموح أو إحتياج للعالم الروحي.

لقد خلق الإنسان في هذا العالم لكي يكتشف العالم الروحي خلال حياته التي يحياها على هذه الأرض، وبهذا يستطيع العيش بالعالمين على حد سواء في هذا العالم وفي العالم الروحي أيضا. وبعد إضمحلال الجسد يشعر الإنسان بالعالم الروحي إلى نفس الدرجة التي كان بإمكانه التوصل إليها حين وجوده في هذا العالم.إن نفس الإنسان فيه قادرة على إظهار العالم الروحي له فقط في حال هذه النفس موجودة في الجسد البشري.

من كل ما ورد نرى بأن العالم بأكمله كائن لهدف واحد أي لمساعدتنا في إكتشاف العالم الروحي.

إن الجزء الحيواني والجزء البشري من المخلوق لا يعيشون بحالة مستقلة وانعزال الواحد عن الآخر بل أن دورهما محتوم في قدر مساهمة كل منهما في إدراك الجزء الثالث أي الجزء الروحي في الإنسان في حين وجوده في هذا العالم.فإن أفعال الإنسان قادرة في مفعولها فقط إلى حد صلتها وعلاقتها بالتقدم الروحي للإنسان إذ أن القسم الروحي فقط هو الذي بحاجة إلى تحويل بما أن الجزئين الآخرين – الحيواني والبشري- هما في طبيعتهما وفي بيئتهما المناسبة لهما. فالجزء الأول والثاني لا يتغيرا أبدا من تلقاء نفسهما ولا يعتمدان على رغباتنا أيضا، ولكن إدراك الجزء الروحي يحدد مدى التغيير الذي يطراء عليهما.

إن جميع أفعالنا المرتبطة في الجزء الأول والثاني من كياننا لا نملك أي حرية فيها وليس لدينا أي سلطة عليها إذ أن هذين الجزئين مبرمجين من الطبيعة والذين يشكلان إطارا صلبا ومتزمتا لهيكلنا وبإختيارنا كيف يمكننا تنمية الجزء الروحي فينا نستطيع تحديد درجتنا ليس فقط بالنسبة للجزء الروحي فينا ولكن أيضا في كلا الجزئين الأوليين. في تنازلنا وتراجعنا عن القيام بإعمال العبث والحماقة المتعلقة بالجزء الأول والثاني من الرغبات الحيوانية والبشرية وتركيز جهودنا نحو إظهار الواقع الروحي يحصل الإنسان على القدرة في السيطرة على كل ما هو في العالم في كلا المرحلتين من الجزء الأول والثاني من الوجود.أي أن تسلط الإنسان على هذا العالم يكون فقط من خلال إحرازه للعالم الروحي.

نحن نرى الآن من خلال هذا الدرس كيف أن أفعال الإنسان جميعها محددة سلفا في هذا العالم إلا واحدة فقط والتي تحدد كل شيء بالنسبة له إلا وهي طموحه للعالم الروحي ورغبته في إظهاره ليتضلع في معرفة القوانين التي وضعت من قبل العناية الإلهية وكيفية عملها وتسييرها.فإلى أن يصل الإنسان للمرحلة التي فيها يملك حرية الإختيار في السماح للنور في تصحيح الأنا فيه من خلال إختياره للبيئة يصل إلى مفهوم عمل نظام القانون العام المتكامل والذي يشكل الرسم البياني لمراحل التصحيح والتي تشمل نقطة البداية في تواجدنا في هذا العالم، ومراحل نمو الرغبة فينا حتى وصلت إلى مرحلة تسائل الإنسان عن وجود الخالق والعالم الروحي والتي تتمثل بيقظة النقطة في القلب والتي منها يأخذ الإنسان بدراسة علم حكمة الكابالا والتي من خلالها يبدأ النور المحيط في التأثير عليه بتصحيح رغباته بالتدريج إلى أن يصل إلى الوعي لضرورة وجوده في البيئة الصحيحة والتي من خلالها يستطيع إمتلاك حرية الإختيار ليأخذ النور المحيط التأثير عليه بأكثر قوة وبشكل مباشر لإحراز العالم الروحي حسب درجات السلم إلى أن يصل إلى نهاية مراحل التصحيح في توازنه الشكلي الكامل في السمات مع نور الخالق.

الرسم التالي يظهر صورة عمل النظام بشكل كلي:

drawing free well2

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*